[كتبتُ المقال أدناه في إطار سلسلة المقالات القصيرة التي بدأت أكتبها منذ مدة لجريدة «القدس العربي» وتصدر كل يوم أربعاء. غير أن الجريدة اعتذرت عن نشره، وهي المرة الثانية التي يحدث لها أن تعتذر عن نشر أحد مقالاتي. جاء المقال تعليقاً على أحداث القمع التي وقعت في إسطنبول يوم الأحد في 25 حزيران/يونيو الماضي. وهو تعليق سريع بحكم حدود هذا النوع من الكتابة، دفعني إليه ليس الحدث بذاته فحسب بل أيضاً سكوت الصحافة العربية عنه. ولم يتناول المقال بالطبع جملة أمور متصلة، من تحليل الانزلاق السلطوي في تركيا (الذي كتبت عنه مراراً، هنا على سبيل المثال) إلى الاضطهاد الجنسي بوجه عام في منطقتنا العربية والقضية المحورية في تحديد مستقبلها، ألا وهي القضية النسائية.
ويجدر في هذا الصدد التنويه بأن الإعلام العربيّ القرار (وليس العربيّ اللغة والأجنبيّ القرار) يقبل بالكتابة النسوية، ولو بحدود ضيّقة ومن باب رفع العتب، لكنّ الموقف التحرّري من المثلية الجنسية يبقى لديه بوجه عام من المحرّمات التي لا يجرؤ على تحدّيها، حتى إذا كان المشرفون على جهاز الإعلام أنفسهم متعاطفين مع الموقف المذكور. وليس اعتذار «القدس العربي» عن نشر المقال أدناه سوى مثال عن تلك القاعدة، وكأنه تأكيد لما جاء في المقال. لذا رأيت أن أنشره كما كتبته بالأصل بدون إضافة أو تعديل، علماً بأنني حرصت فيه على أن أتجنّب أكثر ما يمكن «استفزاز» المشاعر التي أنتجتها الثقافة السائدة، أملاً مني بأن تقبل الجريدة بنشره. هذا وأشكر مجلة «جدلية» الإلكترونية على منحها حق اللجوء السياسي لهذا المقال.
جلبير الأشقر، أول تمّوز/يوليو 2017.]
تجاهل معظم الإعلام العربي (والمقصود هنا الإعلام العربيّ المصدر وليس أي إعلام باللغة العربية كقنوات BBC وCNN وFrance24 العربية) حظر السلطات التركية لتظاهرة «فخر المثليين والمثليات» (Gay Pride) في تركيا للسنة الثانية على التوالي، وما عقب ذلك من أحداث. وقد أصرّ منظّمو التظاهرة السنوية على إجرائها يوم الأحد الماضي في إسطنبول، فقامت الشرطة التركية بقمع من تجرّأ منهم على الحضور وبعنف شديد شمل استخدام الرصاص المطاطي ومطاردة المتظاهرين بواسطة الكلاب.
جرى ذلك بالرغم من أن القوانين التركية لا تحرّم العلاقات المثلية (بين الراشدين طبعاً وليس بين الراشدين والقاصرين، مثلها مثل كافة أنواع العلاقات الجنسية) وتضمن حق التظاهر. ومن المعلوم أن إسطنبول اعتادت منذ مدّة أن تشهد كل سنة، حتى عام 2015، تظاهرة حاشدة بمناسبة يوم «فخر المثليين والمثليات» العالمي. كما لم يفت أحداً أن الحجة التي تذرّعت بها السلطات التركية في حظر التظاهرة، وهي سلامة المتظاهرين بعد أن هدّدت بالهجوم عليهم جماعةٌ يمينية متطرّفة (منشقّة عن تنظيم «الذئاب الرمادية» الفاشستي)، إنما هي من باب النفاق، إذ كانت حماية التظاهرة أسهل بكثير من قمعها لو أرادت السلطات التركية صون الحريات الديمقراطية.
وتحيط قضية المثليين والمثليات في منطقتنا العربية والشرق أوسطية هالة من الإرهاب الفكري والأخلاقي تردع حتى الكتّاب والمعلّقين الذين يعارضون الحظر القانوني لذلك الصنف من العلاقات الإنسانية عن الإفصاح عن رأيهم، ناهيكم عن العدد العظيم من المثليين والمثليات الذين يردعهم محيطهم القمعي عن إشهار هويتهم الجنسية. والحقيقة أن قضية المثلية الجنسية باتت محكاً بارزاً لتقدّم حقوق الإنسان في عالمنا المعاصر، حتى أن الدول الغربية بالذات لا تزال تخطو خطوات على درب مساواة المثليين والمثليات بالحقوق مع المغايرين والمغايرات، لا سيما في موضوع حق الزواج.
ويشير هذا الواقع إلى بطلان الحجة القائلة إن حظر المثلية الجنسية (التي لا يزال الكثيرون في منطقتنا يصنّفونها في فئة «الشذوذ الجنسي» بتعارض مع ما أثبته البحث العلمي في كون المثلية نزعة من النزعات الجنسية الطبيعية لدى قسم من الجنس البشري) هو مبرّرٌ في بلداننا بسبب كون الإسلام هو الدين السائد فيها. ويغفل هذا الرأي أو يتغافل عن أن جميع الديانات الرئيسية الأخرى، سواء أكانت أدياناً إلهيّة توحيدية كاليهودية والمسيحية أم غيرها من الأديان كالبوذية والهندوسية، حرّمت المثلية الجنسية.
فلا تكمن المسألة في نوع الدين الغالب في كل بلد، بل في درجة دخول ذلك البلد في العصر الحديث الذي يشكّل فصل الدين عن الدولة والقانون إحدى أبرز سماته، لا بل شرط أساسي من شروطه. ويحتاج المرء لدرجة عالية من التعامي كي لا يرى أن معظم البلدان الأكثر قمعية وانتهاكاً لحقوق الإنسان على وجه الأرض بلدانٌ تدّعي تأسيس مؤسسات حكمها وقوانينها على الدين. أما القسم الآخر من الدول القمعية فتلك التي تحظّر الدين، إذ أن حرية اعتناق الأديان (كافة الأديان) وممارستها هي أيضاً من حقوق الإنسان البديهية.
وكم هي ذات دلالة تلك الخريطة الواردة على صفحة موقع ويكيبيديا حول «حقوق المثليين حسب الدولة أو الإقليم» التي تبرز في وسطها، بين نوادر الدول التي لا تزال تُفرض فيها عقوبة الإعدام على المثليين وهي بلون بنّي، ثلاثة دول شرق أوسطية هي «الجمهورية الإسلامية الإيرانية» و«المملكة العربية السعودية» وبينهما «الدولة الإسلامية» المزعومة (داعش).
والحقيقة أن حظر المثلية الجنسية يقوم دائماً وفي أي مكان على النفاق إذ أنه ليس من مجتمع بشري إلّا وفيه، من قاعدته إلى قمّته، نسبة من المثليين والمثليات (ومن المعلوم أن تلك النسبة أكثر ارتفاعاً في الحقيقة كلّما كان كبت العلاقات بين الجنسين أشدّ كما هو في منطقتنا). ومن أبرز أمثلة النفاق التاريخية معاقبة النازيين الألمان للمثليين إلى درجة الزج بهم في معسكرات الإبادة مع اليهود والغجر واليساريين وسواهم في حين شملت صفوف النازيين وقياداتهم نسبة من المثليين لا تقل عن نسبتهم في أي جماعة بشرية.
وقد اشتهر في هذا الصدد قول محمود أحمدي نجاد، في ندوة له في جامعة كولومبيا الأمريكية في عام 2007، عندما أجاب عن سؤال حول مصير المثليين في بلاده زاعماً: «ليس لدينا مثليين في إيران مثلما لديكم هنا. في بلدنا لا وجود لمثل ذلك». وأمام عاصفة التهكّم التي أثارها آنذاك كلام الرئيس الإيراني، أدلى مستشاره الإعلامي بتصريح لوكالة رويترز قال فيه إن ما قصده أحمدي نجاد هو أنه «ليس في إيران الكثير من المثليين مقارنة بالولايات المتحدة»، وهو تصريح زاد في الطين بلّة. وكلّ قارئ غير ساذج على يقين في قرارة نفسه من حقيقة الأمر في منطقتنا.
*كاتب وأكاديمي من لبنان